فصل: قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: كل قول يقال بالفم فما معنى بأفواههم؟
أجيب: بأنه قول لا يعضده برهان فما هو إلا لفظ تفوهوا به فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي لا تدل على معان وذلك أنّ القول الدالّ على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب وما لا معنى له مقول بالفم لا غير أو بأن يراد بالقول المذهب كقولهم قول الشافعيّ رحمه الله تعالى يريدون مذهبه وما يقول به كأنه قيل: ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم لأنه لا حجة معه ولا شبهة حتى تؤثر في القلوب وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له ولا ولد لم تكن لهم شبهة في انتفاء الولد قال أهل المعاني: لم يذكر الله تعالى قولًا مقرونًا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زورًا {يضاهون} قال ابن عباس: يشابهون، وقال مجاهد: يواطئون، وقال الحسن: يوافقون {قول الذين كفروا من قبل} أي: من قبلهم ولابد من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قول الذين كفروا ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعًا والمعنى أنّ الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم فالكفر قديم فيهم غير مستحدث أو يضاهي قول المشركين: الملائكة بنات الله، وقيل: الضمير للنصارى أي: يضاهي قولهم: المسيح ابن الله قول اليهود عزير ابن الله لأنهم أقدم منهم. وقرأ عاصم بكسر الهاء وبعدها همزة مضمومة والباقون بضمّ الهاء ولا همز بعدها وقوله تعالى: {قاتلهم الله} دعاء عليهم بالهلاك فإنّ من قاتله الله تعالى هلك أو تعجب من شناعة قولهم كما يقال لمن فعل فعلًا يتعجب منه قاتله الله ما أعجب فعله وقيل: لعنهم الله.
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل شيء في القرآن مثله فهو لعن {أنى يؤفكون} أي: كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل مع قيام الدليل بأنّ الله تعالى واحد أحد فجعلوا له ولدًا تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا وهذا التعجب راجع إلى الخلق لأنّ الله تعالى لا يتعجب من شيء ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم فالله تعالى عجب نبيه صلى الله عليه وسلم من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل.
{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم} أي: اتخذ اليهود أحبارهم أي: علماءهم والحبر في الأصل العالم من أي طائفة كان واختص في العرف بعلماء اليهود من ولد هرون وكان أبو الهيثم يقول: واحد الأحبار حبر بالفتح وينكر الكسر، واتخذ النصارى رهبانهم أي: عبادهم أصحاب الصوامع، والراهب في الأصل من تمكنت الرهبة من قلبه فظهر آثارها على وجهه ولباسه واختص في العرف بعلماء النصارى أصحاب الصوامع {أربابًا من دون الله} لأنهم أطاعوهم في تحريم ما أحلّ الله تعالى وتحليل ما حرّم الله تعالى كما تطاع الأرباب في أوامرهم ونحوه تسمية أتباع الشيطان فيما يوسوس به عباده كما قال تعالى: {بل كانوا يعبدون الجنّ} وقال إبراهيم الخليل عليه السلام: {يا أبت لا تعبد الشيطان}، وعن عدي بن حاتم أنه قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: «يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك» فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة فوصل إلى هذه الآية فقلت: إنا لسنا نعبدهم فقال: أليس يحرمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلون ما حرّمه فتحلونه، قلت: بلى، قال: «تلك عبادتهم» قال عبد الله بن المبارك:
وهل بدّل الدين إلا الملوك ** وأحبار سوء ورهبانها

فإن قيل: إنه تعالى كفرهم بسبب أن أطاعوا الأحبار والرهبان فالقاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره على ما هو قول الخوارج. أجيب: بأنّ الفاسق وإن كان يقبل دعوى الشيطان إلا أنه لا يعظمه بل يلعنه ويستخف به وأمّا هؤلاء فكانوا يقبلون قول الأحبار والرهبان ويعظمونهم وقد يبالغ بعض الجهال في تعظيم شيخه بحيث يميل طبعه إلى القول بالحلول والاتحاد وذلك الشيخ إذا كان طالبًا للدنيا بعيدًا عن الآخر بعيدًا عن الدين قد يلقي إليهم أنّ الأمر كما يقولون ويعتقدون، وعن الفضيل رضي الله تعالى عنه ما أبالي أطعت مخلوفًا في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة {والمسيح ابن مريم} أي: اتخذوه كذلك لكونهم جعلوه ابنًا فأهلوه للعبادة بذلك مع كونه ابن مريم فهو لا يصلح للإلهية بوجه لمشاركته للآدميين في الحمل والولادة والأكل والشرب وغير ذلك من أحوال البشر الموجبة للحاجة المنافية للإلهية {وما أمروا} أي: في التوراة والإنجيل {إلا ليعبدوا} أي: ليطيعوا على وجه التعبد {إلهًا واحدًا} أي: لا يقبل القسمة بوجه لا بالذات ولا بالمماثلة وهو الله تعالى وأما طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة من أمر الله بطاعته فهي في الحقيقة طاعة الله تعالى وقوله تعالى: {لا إله إلا هو} صفة ثانية أو استئناف مقرّر للتوحيد {سبحانه عما يشركون} أي: تعالى وتنزه عن أن يكون له شريك في العبادة والأحكام وأن يكون له شريك في الإلهية يستحق التعظيم والإجلال.
{يريدون} أي: رؤساء اليهود والنصارى {أن يطفئوا نور الله} أي: شرعه وبراهينه الدالة على واحدانيته وتقديسه عن الولد أو القرآن أو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم {بأفواههم} أي: بأقوالهم الكاذبة وشركهم وفي تسمية دينه أو القرآن أو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم نورًا ومعاندتهم إطفاءه بأفواههم تمثيل لحالهم في طلبهم أن يبطلوا نور الله بالتكذيب بالشرك بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق والإضاءة ليطفئه بنفخه ويطمسه {ويأبى الله} أي: لا يرضى {إلا أن يتمّ نوره} بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام.
فإن قيل: كيف جاز أبى الله إلا كذا ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيدًا؟
أجيب: بأنه أجرى أبى مجرى لم يرد ألا ترى كيف قوبل {يريدون أن يطفئوا} بقوله: {ويأبى الله} وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره وقوله تعالى: {ولو كره الكافرون} محذوف الجواب لدلالة ما قبله أي: ولو كرهوا غلبته.
{هو الذي أرسل رسوله} محمدًا صلى الله عليه وسلم {بالهدى} أي: القرآن الذي أنزله عليه وجعله هاديًا له {ودين الحق} أي: دين الإسلام {ليظهره} أي: ليعليه {على الدين كله} أي: جميع الأديان المخالفة له وهذا كالبيان لقوله تعالى: {ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره} ولذلك كرّر {ولو كره المشركون} غير أنه وضع المشركون موضع الكافرون للدلالة على أنهم ضمو الكفر بالرسول إلى الشرك بالله تعالى.
فإن قيل: الإسلام لم يضمّ غالبًا لسائر الأديان في أرض الصين والهند والروم وسائر بلاد الكفر أجيب عن ذلك بأوجه: الأوّل: بأنه لا دين بخلاف الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون وظهروا عليهم في بعض المواضع وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم فقهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصارى على بلاد الشأم وما والاها إلى ناحية الروم والمغرب وغلبوا المجوس على ملكهم وغلبوا عُبَّاد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الهند والترك وكذا سائر الأديان فثبت أنّ الذي أخبر الله تعالى عنه في هذه الآية قد وقع وحصل فكان ذلك إخبارًا عن الغيب فكان معجزًا.
الوجه الثاني: ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: هذا وعد من الله تعالى بجعل الإسلام غالبًا على جميع الأديان وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى عليه السلام فإنه لا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام، وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدّى الخراج.
الوجه الثالث: أنّ المراد إظهاره في جزيرة العرب وقد حصل ذلك فإنه تعالى ما أبقى فيها أحدًا من الكفار، وقال ابن عباس: الهاء في {ليظهره} إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى ليعلمه شرائع الدين كلها ويظهره عليها حتى لا يخفى عليه شيء منها.
{يا أيها الذين آمنوا إنّ كثيرًا من الأحبار} أي: علماء اليهود {والرهبان} أي: عباد النصارى {ليأكلون} أي: يتناولون {أموال الناس بالباطل} كالرشا وإنما عبر بالأكل لأنه معظم المراد من المال وإشارة إلى تحقير الأحبار والرهبان بأن يفعلوا ما ينافى مقامهم الذي أقاموا أنفسهم فيه بإظهار الزهد والمبالغة في التدين قال الرازي: ولعمري من تأمّل أحوال الناس في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وشرح أحوالهم فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه في الطهارة والعظمة مثل الملائكة المقرّبين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله {ويصدّون} الناس {عن سبيل الله} أي: دينه ولما كان مطلوب الخلق في الدنيا المال والجاه بين تعالى في صفة الأحبار والرهبان كونهم مشغوفين بهذين الأمرين أمّا المال فهو المراد بقوله تعالى: {ليأكلون أموال الناس بالباطل}.
وأما الجاه فهو المراد بقوله: {ويصدّون عن سبيل الله} فإنهم لو أقرّوا بأنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم على الحق لزمهم متابعته وحينئذ كان يبطل حكمهم وتزول حرمتهم ولأجل الخوف من هذا المحذور كانوا يبالغون في المنع من متابعته صلى الله عليه وسلم ويبالغون في إلقاء الشبهات وفي استخراج وجوه المكر والخديعة وفي منع الخلق من قبول دينه الحق {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} يحتمل أن يراد بقوله: {الذين} أولئك الأحبار والرهبان فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بقوله تعالى: {ليأكلون أموال الناس بالباطل} ووصفهم أيضًا بالبخل الشديد والامتناع من إخراج الواجبات عن أموال أنفسهم بقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} وأن يراد المسلمون الذين يجمعون المال ولا يؤدّون حقه ويكون اقترانهم بالمرتشين من اليهود والنصارى تغليظًا ودلالة على أنّ من يأخذ منهم السحت ومن لا يعطي منكم بطيب زكاة ماله سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم وأن يراد كل من كنز المال ولم يخرج منه الحقوق الواجبة سواء كان من الأحبار والرهبان أو كان من المسلمين.
لما روي عن زيد بن وهب قال مررت على أبي ذر بالربذة فقلت: ما أنزلت بهذه الأرض فقال: كنا بالشأم فقرأت: {والذين يكنزون الذهب} الآية فقال معاوية: ما هذا فينا ما هذا إلا في أهل الكتاب، فقلت: إنها فيهم وفينا فصار ذلك سببًا لوحشة بيني وبينه فكتب إليّ عثمان أن أقبل إلي فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي: تنح قريبًا فقلت: إني والله لن أدع ما كنت أقول وأصل الكنز في كلام العرب الجمع وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز يقال: هذا جسم مكتنزًا الأجزاء إذا كان مجتمع الأجزاء، واختلف علماء الصحابة في المراد بهذا الكنز المذموم على قولين: الأوّل: وهو ما عليه الأكثر أنه المال الذي لم تؤدّ زكاته لما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالًا فلم يؤدّ زكاته مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه- يعني: شدقيه- ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا {ولا تحسبّن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله} الآية»، والشجاع: الحية، والأقرع صفته لطول عمره لأنّ من طال عمره تمزق شعره وذهب وهي صفة أخبث الحيات، والزبيبتان: الزائدتان في الشدقين.
وروي لما نزلت هذه الآية كبر على المسلمين فذكر عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم» وقال ابن عباس في قوله تعالى: {ولا ينفقونها في سبيل الله} يريد الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم، قال القاضي عياض تخصيص هذا المعنى بمنع الزكاة لا سبيل إليه بل الواجب أن يقال: الكنز هو الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات وبين ما يلزم من نفقة الحج وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق والإنفاق على الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات فيجب في كلّ هذا الآثام وأن يكون داخلًا في الوعيد والقول الثاني: إنّ المال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم واحتج الذاهبون إلى هذا القول بعموم الآية وبما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: «تبا الذهب تبا للفضة» قالها ثلاثًا فقالوا له: أي مال نتخذ قال: «لسانًا ذاكرًا وقلبًا خاشعًا وزوجة تعين أحدكم على دينه» وقال عليه الصلاة والسلام: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها» وتوفي شخص فوجد في مئزره دينار فقال صلى الله عليه وسلم: «كية» وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال: «كيتان» وأجاب القائلون بالأوّل بأنّ هذا كان قبل فرض الزكاة فأمّا بعد فرض الزكاة فالله أعدل وأكرم أن يجمع عبده مالًا من حيث أذن فيه ويؤدّي ما أوجب عليه فيه ثم يعاقبه.
وقد روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن هذه الآية فقال: كانت قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهرة للأموال وقال ما أبالي لو أنّ لي مثل أحد ذهبًا أعلم عدده أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أدّي زكاته فليس بكنز» وكان في زمانه صلى الله عليه وسلم جماعة معهم الأموال كعثمان وعبد الرحمن بن عوف وكان عليه الصلاة والسلام يعدّهم من أكابر الصحابة وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإعراض اختيار للأفضل وإلا دخل في الورع والزهد في الدنيا والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه وكونه أدخل في الورع لأمور منها أن كسب المال شاق شديد وحفظه بعد حصوله أشدّ وأشق وأصعب فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل وأخرى في طلب الحفظ ثم إنه لا ينتفع منها إلا بالقليل ومنها أن كثرة المال والجاه تورث الطغيان كما قال تعالى: {إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}.